المال لا يجلب السعادة.. لكنه يجعل تنازلاتك في الحياة أقل
- Haya Alaqeel
- Jun 11, 2024
- 7 min read

بقلم : هيا العقيل
قالت لي : المال لا يجلب السعادة
قلت لها: نعم، و لكنه يجعل تنازلاتك في الحياة أقل بكثير
قالت : أؤمن بأنه وسخ الدنيا
قلت لها: غير صحيح هو زينة الحياة الدنيا
هكذا بدأنا النقاش بعد بضع جمل أخرى من التحية و تبادل الأخبار، فبعض البشر لا تحتاج معهم للمجاملات و المقدمات، فقط تدخل معهم مباشرة بأي نقاش تريد
أكملتُ: تقولين المال لا يجلب السعادة، و هذا إلى حدٍّ ما صحيح، و لكنه في المقابل قد يجلب الصحة (بإذن الله طبعا)، و قد يجلب الكرامة بين أولئك الذين لا يفهمون سوى لغته، و قد يجلب الهيبة لمن لا هيبة حقيقية له في كثير من الأحيان، و قد يجلب الاحترام لمن لا يستحق أدنى احترام، و قد يجلب القوة لمن لا يمتلك أدنى مقومات القوة الحقيقية
هو لا يجلب السعادة الدائمة لأنها أساسا من محض الخيال و هي ليست غاية و هدف في هذه الحياة الدنيا؛ إذ ينبغي أن يكون هدفنا أن نحيا برضا و اطمئنان و الذي لا يتحقق سوى بالقرب من الله عزوجل، لكنه بالمقابل قد يجلب السعادة المؤقتة لصاحبها و من يُحبّ
و مما لا شك فيه هو أن المال لا يجلب معه السعادة كهدية مجانية كما يعتقد الكثيرون، و الدليل كم رأينا من أصحاب المليارات يعانون و يكتئبون بل و حتى ينتحرون، و كم شهدنا من أصحاب القروش القليلة يَهنؤون و يمضون بإصرار في هذه الحياة. و من يعيش في القصور في بؤس و شقاء، و من يعيش في كوخ صغير في راحة بال و هناء
نعم صدقوا حين قالوا أن المال لا يجلب السعادة، لكن هذا لا ينفي أبدا أن أصحاب المال لا يتنازلون بسهولة، لأنهم يمتلكون إحدى لغات القوة المستخدمة في أيامنا هذه و في جميع العصور التي سبقتنا.. ألا و هي لغة المال، تلك التي يفتقر إليها أصحاب الحظ المتدني في جميع المجتمعات، و الذين هم في كثير من الأحيان مضطرون للتنازل لأنهم لا يملكون خَيارا غيره، إذ أن لديهم خيار واحد لا ثاني له، و هو خيار أن تقبل ما هو متاح حتى لا تفقد إحدى ضروريات الحياة التي تعيش عليها أنت و من تعيل، على عكس من يملك المال، الذي يدفع بصاحبه لرفاهية الاختيار من بين عدة خيارات
نعم صدقوا حين قالوا أن المال لا يجلب السعادة، لكن كان عليهم أن يكملوا هذه الجملة ب : لكنه يجعل تنازلاتك في الحياة أقل.. بل أقل بكثير
نعم صدقوا حين قالوا أن المال لا يجلب السعادة، لكن كان عليهم أن يكملوا هذه الجملة ب : لكنه يجعل تنازلاتك في الحياة أقل.. بل أقل بكثير
عندما تملك لغة المال في عصر يهوج و يموج بالماديات
فإنك في معظم الوقت
لن ترضى بالقليل مرغما..
و لن ترضى بالتجريح خانعا..
و لن تطلب المزيد متحرجا..
و لن تصمت و تدوس على كرامتك متنازلا..
حين تسود لغة الماديات و لغة المال فإن على أصحاب العقول أن يفهموها و يحاولوا تعلّمها و اكتسابها إن استطاعوا، لا ليغيّروا مبادئهم أو لينجرفوا خلف المظاهر و حمّى الماديات، بل لتجعلهم أقوى في مجتمع -للأسف- يفهم لغة المال على أنها لغة قوة، عندها سيُستمع و يُصغى لهم، و سيأخذونه على محمل الجد أكثر، و سيُحدث تغييرا على مستوى أكبر في الجموع ذوي العقول المتفاوتة
فكم من سخيف لا يزن في ميزان العقل قشّة، يوزن في ميزان المجتمع الكثير لأنّ في جيبه الكثير، و كم منهم من هو ممتلئ بالعلم و الحكمة، و قليل هم من يسمعونه لأن جيبه.. خفيف
فكم من سخيف لا يزن في ميزان العقل قشّة، يوزن في ميزان المجتمع الكثير لأنّ في جيبه الكثير، و كم منهم من هو ممتلئ بالعلم و الحكمة، و قليل هم من يسمعونه لأن جيبه.. خفيف
حين نصبح كغثاء السيل فذلك يعني أن لغة الاحترام فيما بيننا ستختلف، و ستكون لغة لا يفهمهما سوى العوام الذين يمشون مع القطيع ، و عندها لن يستمع لك و لعلمك و لفهمك و لحكمتك سوى القليل، أما معظم العوام فسيأخذونك على محمل الجد أكثر إن رأوا منك لغة يفهمونها و يستوعبونها كلغة المال مثلا
كذلك قلتي هو وسخ الدنيا، أتفق معك بأنه وسخ الدنيا إن كان مالا حراما، لكن المال أنواع، مال حلال شريف نظيف، و مال عكس ذلك كالذي وصفتيه به في بداية حديثك
أما من كان ماله حلال و يستخدمه لمرضاة الله و لإنفاقه في وجوه الخير، فهو قوي بقوة هذا المال و بركته. أما إن كان حرام، حَرَمه راحة البال و إن كان ظاهره يُظهر عكس ذلك، فلا يستوي الخبيث من المال مع الطيب منه مهما حدث، كما هو الحال مع الطيب و الخبيث من أي شيء
و الدليل على ذلك أن الغِنى لسيدنا سليمان جعل منه سيدا لا يُهزم بسهولة، بتوفيق الله أولا ثم بسؤاله و دعائه بأن يؤتيه الله بسلطان عظيم، فسُخّرت له قوى خفيّة و غير خفيّة، و رُزق مُلكا عظيما، و ما أنقص ذلك من نبوّته و صلاحه شيء (قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ) سور ص. و قارون صاحب الخزائن و المال، كان ماله وبالا عليه و سببا لهلاكه في الدنيا و الآخرة، لأنه استخدمه للبطش بالناس و التكبّر و الإفساد في الأرض، و ليس هذا فحسب بل اغترّ بأن ماله إنما جاءه باجتهاد من نفسه و علمه، و حين استعرض كل ذلك متباهيا مختالا أماما الناس، خسف الله به و بداره الأرض ليكون مثلا لقومه و كل من يأتي من بعده ( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) سورة القصص
و لا يعني ذلك أن الفقر ينتقص من قيمة الإنسان، فهو لم ينقص من شأن الأنبياء كالمسيح عيسى ابن مريم، و يحيى بن زكريا، و رسول الله محمد الذي كانت أحواله بين غنى و فقر ، و هو ابن قريش الحسب و النسب. لكن لأن يتبع البشر (العاديّون) أصحابَ المال حتى لو كانوا أنبياء، لهُوَ أسهل و أهون على نفوسهم من اتّباع الفقراء منهم، لذلك كانت ردودهم على دعوة أنبيائهم في القرآن (و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي)سورة هود، (قالوا أنؤمن لك و اتبعك الأرذلون)سورة الشعراء ، ذلك أن اتّباع الحق و فهمه هو صفة الأتقياء الأنقياء ذوو البصيرة، أولئك الذين هم القلة في الدنيا و الآخرة، و هم القليل الذين ورد ذكرهم في القرآن في مواضع عدة، أما الكثيرون من العوام سيتبعون الأغنى، والأقوى، و الأشرف (من وجهة نظرهم) ؛ لأنه يُشبع جوانب خفية في شخصياتهم الدفينة التي هم أنفسهم يجهلونها و لا يعلمونها
لذا كان المال مع من يتّقون الله لغة و وسيلة يدافعون بها عن الحق، و يرفعون بها الظلم عن المظلوم، و يحفظون بها ماء وجه غيرهم المسكوب من الفقراء، و اليتامى، والمساكين. لغة لنشر كلمة الحق في زمن يتأثر فيه السواد الأعظم من الناس بكلام الناجحين (ماديا) أكثر من كلام الناجحين على المستويات الأخرى مهما كانت أهم في جوهرها من المال
المال ليس وسخ الدنيا كما يقول البعض و يروّج، بل هو لغة الدنيا التي يفهمها كثير من البشر دون أن يتكلّم صاحبها، و هو زينة الدنيا (المال و البنون زينة الحياة الدنيا)سورة الكهف، و هو إلى زوال لا محالة، لكنه أيضا قد يخلّد ذكرا طيبا لصاحبه في الأرض و في السماء إن استُخدم في الخير
و قد لا يعني المال عند صاحبه الكثير حين يعتاد عليه، فهو يصبح عندها شيء ككل الأشياء الأخرى إن لم يستشعرها كنعمة و يجدّد شكره لله عليها باستمرار، لكن ماذا لو سألنا من هو محتاج للمال عن معنى المال،
ماذا لو سألنا:
مهاجر غير شرعي يركب قارب مطاطي للهرب من الموت و من واقعه المؤلم لواقع أفضل..
و أب ينظر لطفله المريض و لا يقوى على تأمين دواء له لأنه لا يملك المال..
و أم فقدت طفلتها أطرافها لأنها تأخرت في توفير المال ..
و أب باع كليته لتوّه ليدفع لابنه ثمن علاجه..
و عاملة منزل تنظف، و تكنس، و تحتمل الإهانات، و قد حُرمت من أطفالها الذين هم في بلد آخر يكبرون بعيدا عنها ..
و طفل يحمل حقيبة ممزقة ينحرج منها أمام زملائه..
و أب أُهين أمام ابنه من ربّ عمله..
و آخر لا ينام الليل يفكر في كيفية توفير قسط الجامعة لابنه حتى لا يلقى نفس مصيره في المستقبل..
و لاجئة في مخيم اللاجئين تعيش على المساعدات و لا تستطيع الخروج منه و لا تملك من أمرها شيء..
صدّقيني هناك الكثير لنسألهم، و سنعلم عندها كم هو المال مهم، و كم هي الحياة غير عادلة، و كم فيها من الظلم الذي كنا نحن من تسببنا به
فحين تحترمني لما في جيبي و أحترمك لما في جيبك .. فهذا ظلم
حين أن أنظر لهويتك قبل أن أريك ردة فعلي اتجاهك..فهذا ظلم
حين تعاملني كإنسان من درجة ثانية أو ثالثة و تنسى أو تتناسى أني إنسان مثلك له كرامة و من حقه الطبيعي أن يعيش بكرامة.. فهذا ظلم
أن تشعرني أنك لطيف حين تعاملني بإنسانية و كأنك متفضّل عليّ بذلك..هذا ظلم
و أن..و أن.. و أن
صدّقيني هو زينة و ليس وسخ، و الحياة تزداد بالزينة حلاوة و لا تنقص، أما الفقر فهو مما استعاذ منه رسولنا الحبيب، و إنه لولا الثقة بالله فهو مكبّل لليدين، و من لا مال لديه فإن أقصى طموحاته -في معظم الوقت- هو البقاء، و البحث عن لقمة العيش متنازلا عن الكثير من أحلامه.
و قد وصفه دوستويڤسكي في روايته (الفقراء) وصفا مؤلما : "آه من الفقر، الذي يحكم على الناس بالنزول إلى الدرك الأسفل من المذلة والخضوع "
ثم إنّ ستة من العشرة المبشرين بالجنة هم من الأثرياء أصحاب المال الكثير؛ أبو بكر الصديق، و عثمان بن عفان، و عبدالرحمن بن عوف، و طلحة بن عبدالله، و الزبير بن العوام، و سعد بن أبي وقاص، كانوا تجار يبيعون و يشترون، و يملكون الأراضي و المزارع، و يتاجرون في الخيول و الدواب، و قد وصلت تجارة بعضهم لبلدان بعيدة جدا، يسعون لجمع المال لاستعماله في الخير و نفع البشرية، فكانوا يملكون الدنيا و لا تملكهم، و كانت في أيديهم لا في قلوبهم
و هذا كله إنما يؤكد على أهمية المال في ديننا، و قد أعجبني ما قاله أحدهم في الزهد : ليس الزهد أن لا تملك شيء، و لكن الزهد أن لا يملكك شيء.
ليس الزهد أن لا تملك شيء، و لكن الزهد أن لا يملكك شيء.
نعم المال لم و لن يجلب السعادة، لكنه بلا شك يجعل في معظم الوقت تنازلاتك في الحياة أقل بكثير، و كما قالوا : ما أسهل الحديث عن الصبر و التحمل عندما لا يكون الوجع وجعك!
و أنا أقول: ما أسهل ذم المال حين يكون الإنسان مكتفيا و منعما يا صديقتي
قالت مكابرة كعادتها تخفي ابتسامة يشوبها الاقتناع:
-كلامك فيه وجهة نظر
قلت لها :
-فلنقل اللهم اغننا بحلالك عن حرامك و بفضلك عمن سواك
-حسنا، غلبتيني هذه المرة يا صديقتي "المتفلسفة"
ضحكنا و شربنا قهوة هي من دعتني إليها،
و التي كانت جزءا من سعادة.. اشترتها بالمال،
ثم غادرنا
و السلام




