top of page

بيوت في الطائرة

ree

بقلم : هيا العقيل


ولدتُ في الطائرة كما كل البشر، و مضت الأيام و كبرت .. كبرت بسرعة، أطالع بين الحين و الآخر طفولتي و مراهقتي اللتان ما زال جزءامنهما يتشبّث في داخلي ، فأجدهما قد مرّتا بسرعة.. بسرعة كبيرة


المهم أني كبرت، لا بل و ما زلت أكبر و لا عجب في ذلك، و لكن كوني قد كبرت و نشأت في الطائرة - كما كل البشر - فإني و حين بدأت أحلُل ضيفة على مرحلة النضج التي ما زلت أحبو فيها محاولةً الوقوف على أعتابها- ذلك أن تكبر لا يعني بالضرورة أنك تنضج- وجدت الناس من حولي و قد أخذ كلٌّ منهم ببناء حياة كاملة متكاملة على متن هذه الطائرة، فشمّروا عن سواعدهم يشيّدون البيوت و القصور، هذا إلى جانب اهتمامهم بأدقّ التفاصيل لعيش حياة تليق بهم كما يقولون، فهم يستحقون الأفضل ليتميزوا بين أقرانهم من سكان الطائرة، و كان هذا الشيء يعجبني و يفاجئني في الوقت ذاته


فأن تحاول جاهدا كي تحظى بمكانة بين أولئك الذين هم في المقدمة هو بلا شك أمر محمود يغذيك بشعور جميل في رحلتك في هذه الحياة إن كان في الخير طبعا - و إن كان هو كذلك حتى لأولئك الأشرار الذين يسعون لأن يكونوا في المقدمة في أي شيء يرونه مهمّاً من وجهة نظرهم - و لكنه كان يفاجئني في نفس الوقت كلما سمعت أن أحدهم قد أدار ظهره لكل شيء على متن هذه الطائرة مغادرا إياها دون حتى أن يلوّح بيده لأحبابه و أصحابه.. بأنه على وشك الرحيل و المغادرة


كانت الطائرة كما يعرف جميع قاطنيها فيها الدرجة السياحية و درجة رجال الأعمال و الدرجة الأولى، و كان هناك مكان مخصّص للحقائب و الأمتعة يقطنها أيضا من لا يملك ثمن تذكرة الطائرة التي يركبها متجها إلى وجهته


كلٌّ في مقعده يغادره في الصباح و يعود أدراجه إليه آخر النهار لينام و يكمل رحلته، و أولئك الذين لا مقاعد لهم فقد كانوا يفترشون أرض الطائرة و ينامون بين المقاعد، فتجد البعض يساعدهم عبر إعطائهم ما يحتاجون إليه من بطانيات أو مال أو طعام أو غيره من أوجه المساعدة، في حين كان بعضهم يكتفي بالقفز من فوقهم حتى لا يؤذيهم خلال سيره، و آخرون يدوسون عليهم كلما وجدوهم في طريقهم


عجبتُ من البشر هناك، جميعهم في حركة مستمرة و أنا منهم، نبني و نعمل و ندرس و نذهب للجامعات و ننشر إنجازاتنا على الملأ عبر جمعات و أحاديث و تصوير .. الحركة كانت تعمّ المكان ... و كل ذلك على متن الطائرة!


كان بيننا بعض البشر الطيبين الصالحين يمرّون علينا بين الفينة و الأخرى مهدِّئين من استعجالنا و روعنا محاولين تذكيرنا أنّ وجهتنا التي سنبلغها يوما ما لا تحتاج منا ما نفعله فقط و ما نقوم بإهدار طاقتنا و وقتنا و قوّتنا في بنائه و شرائه للتباهي و الاستعراض، و أنّ حياتنا الخالدة التي تحتاج أن نبنيها بحقّ هي هناك.. في وجهتنا الأخيرة، في المستقرّ الأخير الذي سوف نبلغه حين تهبط الطائرة


و بينما نحن هناك تفتح الطائرة بابها كل دقيقة - و أحيانا كثيرة كل ثانية -  مودّعة مجموعة من ركابها، بعضهم رضيع و بعضهم طفل و بعضهم شاب و بعضهم كهل و بعضهم شيخ، لقد وصلوا لوجهتهم في لمح البصر، لكن العجيب أنهم لم يأخذوا شيئا واحدا مما كانوا يلهثون خلفه.. تماما كما أخبرنا المصلحون .. بل ذهبوا جميعا برفقة قطعة قماش بيضاء لا أكثر و لا أقل، تلك التي ما فكّر أحدنا في شرائها حين ذهب لينفق المئات في الأسواق على أشياء ستبقى حين يرحل و يُقتلع من بين الجميع


رأيت على متن الطائرة العجب العُجاب، رأيتُ أولئك الذين يقطنون في قسم الأمتعة و الحقائب أو على الأرض بين المقاعد و قد أصبح منهم من يقطن الدرجة الأولى، و وجدت بعض قاطني الدرجة الأولى و قد أصبحوا في ذاك المكان المخصص للحقائب، و منهم من أمسى ينام على الأرض بين المقاعد!


كان معنا أناس متعاونون يساعدون من يحتاج المساعدة حتى دون أن يطلب هو منهم بدوره ذلك، لكن في المقابل كان معنا بشر هم أقرب للحجارة في قسوة قلوبهم، لديهم كل شيء و لا يعطون شيء حتى لو رأووا من بجانبهم يتضوّر جوعا و يقاسي ألما و تلطمه أمواج الحياة يمنة و يسرة بلا هوادة، فلا يكلفون أنفسهم عناء مدّ أصبع المساعدة له و ليس يدها فحسب


و كان هناك محطة تهبط الطائرة عندها بين الفينة و الأخرى مخصصة لأولئك المرضى الذين ما عاد بإمكانهم البقاء على متنها، ينزلون فيها منتظرين أن تتضّح حالتهم الطبية، عندها إما يهبطون و يرحلون مستقبلين وجهتهم الأخيرة، أو يلملموا أغراضهم عائدين أدراجهم إلى الطائرة لإكمال رحلتهم قبل الوصول الأخير


هل ما نحياه حقيقة أم وهم؟ و هل ما نلهث خلفه يستحق منا كل هذا اللهاث و العناء؟ أم أننا نمشي دون إدراك منا إلى أين، و نسير فقط لأننا مع الجماعة نسير؟ و ننسى و نتناسى غاية خلقنا في هذه الطائرة التي لا بدّ و أن تصل يوما ما لوجهتها النهائية التي سنُسأل فيهاعن كل ما فعلناه على متنها لا محالة


هل أعمالنا ترقى لأن توضع في ميزان الأعمال الصالحة أم أنها ستُلقي بنا في مكان يلتهمنا حتى آخرنا ثم يعود فيلتهمنا و لا ينتهي من التهامنا.. للأبد؟


و أوقاتنا.. تلك التي هي أعمارنا لا ندري إن هي استُثمرت أم أنها قد انسابت من بين أيدينا و ذهبت هباءا منثورا


كم؟


كم أضعنا من أوقات في إثبات للغير أننا شيء، و نسينا خالقنا و خالقهم..


كم من غايات تافهة التهمت عقولنا و أجسادنا بغية الوصول إليها و هي لا تستحق منا حتى الالتفات ..


كم كبرنا و كبر أطفالنا بسرعة دون إدراك منا لمراحل حياتهم معتقدين ببراءتهم أن شاشاتنا هي وجوهنا..

و كم منهم لبسوا الشاشات وجوها لهم إجبارا و ليس اختيارا لأنهم لم يجدوا غيرها بديل عنا أمامهم..


كم من لحظات جميلة مرّت دون أن نعيها و ندركها لأننا في مقاعدنا في الطائرة نطلق العنان لأصابعنا أن تضغط على أزرار هواتفنا هنا وهناك،  تلك الأزرار التي تتعاطف مع ذاك البعيد و أحبابنا لا يفصلنا عنهم سوى سنتمترات لا نعلم عنهم شيئا..


و آباؤنا يقاسون فلا نتعاطف معهم سوى بكلمات سريعة عبر الهاتف معتقدين بذلك أننا قد قمنا بواجبنا اتجاههم


كم سُرقت منا لحظات كانت لغتها نظرة عين مُحِبّة، و مصافحة يد ذات معنى، و عناق طويل ينقل ما في القلوب عبر موجات حب حقيقية و ليس موجات لاسلكية


كم من ضحكات مصدرها القلب لأحبابنا أجّلناها معتقدين أن أمامنا و أمامهم متسع من الوقت، و أهدرنا وقتنا الحالي بلهو و لعب مع غيرهم سواءا عبر شاشاتنا الصغيرة أو تلك الكبيرة التي تكتسح بيوتنا


و فجأة قد ننتبه لذلك كله حين نجد أن مقعد أحدهم بجانبنا بات فارغا، و أنه قد وصل لوجهته فرحل دون حتى أن يبلغنا، ترك شاشته خلفه و خلع جسده الأرضي على المقعد و أزال حزامه و ترجل من الطائرة ..


بلا حقائب..


بلا بيوت..


بلا أولاد..


بلا مال..


بلا مناصب..


بلا كتب..


بلا سيارات..


بلا خدم..


بلا شيء


و سيأتي ذاك اليوم الذي ستغدو فيه الطائرة فارغة برمّتها، سنغادر فيه جميعنا إلى وجهتنا منتظرين تصنيفنا بناءا على جدولنا الذي ملأناه هناك فيها، يرحل بعضنا قبل بعض لكن ما هو مؤكد أن الجميع سيرحل و لن يبقى أحد فيها


قد يتمنى أن يصرخ الإنسان حينها لينذر أحباءه الذين سبقهم، بأن انتبهوا و لا تخطئوا العدّة و العتاد.. تمهلوا فما أنتم قادمون إليه لايحتاج فقط ما أنتم هائجون لفعله كل يوم، فهنا المعيار مختلف.


هنا لا مكان لقصور و لا لشاشات و لا لحسابات و لا لنفوس أكلها الطمع و الحقد و الحسد، لا مكان للحقائب ذات الماركات العالمية و لا لموائد ذات آلاف الدولارات التي تكفي لإشباع عائلات لا بل مجتمعات بأكملها اعتصرها الفقر و أنهكها الجوع، و لا مكان لكاميرات تلتقط القشور و توثقها و تنشرها على الملأ مباهية بها من هم على شاكلتها، فالملأ هنا مجرّد من كل تلك الزخرفات الخارجية و القشور المزيفة، والتميّز هنا ليس لمن يملك مالا أكثر أو جمالا أكثر أو منصبا أعلى أو عائلة أعرق أو أولاد أكثر أو أتباع أكثر، التميز هنا هو فيما كانت تحمله الصدور و النوايا خلف تلك الأعمال



حين ننسى غاية خلقنا نفقد البوصلة التي لا بد و أن تأخذ بأيدينا نحو برّ الأمان، و ندمن عندها أي شيء حتى لا نتذكر لِمَ نحن هنا من الأساس، ندمن العمل، و العلاقات، و الالكترونيات، و التسوق، و الشراء، و التلفاز، و الهواتف المحمولة، و الأغاني، و الجلوس في المقاهي، والعلاقات المكدسة التي لا فائدة منها سوى إضاعة الوقت، فتجرفنا الحياة و نصبح في عداد أولئك المتشبثين بها دون وعي أو إدراك، فنغرق بالعبثية واللامعنى و ننسى رويدا رويدا المعنى الحقيقي لحقيقة هذه الحياة التي شاء الله لنا أن نكون جزءا منها، تلك التي وصفها الدكتور الراحل مصطفى محمود  :


(....وهي في جميع الأحوال مجرد عبور و مزار ومنظر من شباك في قطار،وهي الغربة وليست الوطن، وهي السفر وليست المقر، أتعجب تماما وأندهش من ناس يجمعون، ویکنزون، و يبنون و يرفعون البناء و ينفقون على أبهة السكن و رفاهية المقام و كأنما هو مقام أبديّ، و أقول لنفسي أنهم في مرور؟ ألم يذكر أحدهم أنه حمل نعش أبيه وغدا يحمل ابنه نعشه إلى حفرة يستوي فيها الكل؟ و هل يحتاج المسافر لأكثر من سرير سفري؟ وهل يحتاج الجوال لأكثر من خيمة متنقلة؟ ولِمَ هذه الأبهة الفارغة، ولمن؟ )


لن أختم مقالي بنصيحة فأنا أحتاج للنصيحة أكثر من غيري و للتذكير أكثر من أولئك الذين هم من حولي، و للدعاء و الصلاح في باطني وظاهري، و لكن أحيان كثيرة مجرد أن يُخرج الإنسان مافي جعبة قلبه و يشاركه مع أولئك الذين يشبهونه هو ما يحتاج إليه في محطات هذه الحياة، حتى لا تتكدس الأفكار فتهرم في عقله قبل أن ترى بصيص النور و قبل أن يواريه هو الآخر التراب فترحل معه بلا رجعة..


و أحسبكم ممن أشبههم و يشبهونني


و السلام

 
 
 

Comments


Subscribe Form

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • Instagram

©2020 by Haya Alaqeel. Proudly created with Wix.com

bottom of page