حتى نداؤك الخفي يسمعه الله

بقلم: هيا العقيل

كنت أقرأ في ذاك الصباح الجميل ما تيسر من آيات القرآن الكريم، و قد كان من تلك الآيات الكريمة: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ۝ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ۝ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ۝وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ۝ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) سورة مريم

زكريا يدعو ربه نداءا خفيا، قد يكون بصوت منخفض، أو مكتوم في صدره و في سرّه، أو أنه قد تجنب الناس و اختفى عن أنظارهم و أخذ يدعو فلا يراه أحد و لا يسمعه أحد إلا الله. المهم أنه دعا ربه، و الأهم أن الله قد سمعه

و أجاب دعاءه بأن رزقه نبي الله يحيى و هو الكبير في السن و زوجته عاقر و عليه فإن دعاء خفي بقلب تقي قد أثبت مفعوله أكثر من أي شيء آخر اعتقدنا أنه فعّال على وجه الكرة الأرضية، فمفعوله كان أقوى من مفعول الطب الحديث، و الأدوية، و الاستشارات، و السفر لأكفئ أطباء العالم، و المحاولات الواحدة تلو الأخرى للإنجاب من أطفال الأنابيب، إلى حبوب الخصوبة، إلى السحر و الشعوذة، و علاج العين و الحسد

(طبعا مع الإقرار ة بفائدة بعض هذه العلاجات و مطالبتنا كبشر في الأخذ بالأسباب و التوكل على الله عزوجل في كل ما يواجهنا في هذه الحياة) يا الله ما أكرمك و ما أعظمك و ما أرحمك! دعاؤك ينفذ مع انقطاع الأسباب و يحقق الأمنيات في أحلك اللحظات و يقلب الموازين بلحظة دون مقدمات كم من دعاء دعيناه خجلا بيننا و بين الله دون أن يسمعه أحد أو حتى يعرف به أحد؟ كم من دعاء خجلنا التعبير عنه أو طلبه أو نقاشه حتى مع أقرب الناس إلى قلوبنا لكن الله علم به و حقّقه لنا، أو أجلّ تحقيقه لنا بما فيه الخير سواءا كان ظاهرا أم باطنا كم من حسرة في القلب لا يعلمها حتى آباؤنا و لا أزواجنا و لا أولادنا علمها الله و سمعها و جبر خاطرنا بها فتحققت، و عند تحقُّقها كدنا نطير من الفرح، دون أن يدري من حولنا أنها كانت أمنية خفية من أمانينا سمعها الله و حققها لنا كم ..

من مظلوم مقهور رفع مظلمته لله بدلا من رفعها في المحكمة.. فاستجاب الله دعاءه و عوّضه القهار خيرا كبيرا من امرأة تمنّت الزواج فنادت ربها نداءا خفيا أن يرزقها الله الزوج الصالح الذي تكمل معه مشوار الحياة.. و رُزقت من الرزاق حتى و هي في بيتها لا يعلم عنها أحد كم من رجل مكسور الخاطر في بيته أو عمله أو موقعه نادى ربه نداءا خفيا كي لا يظهر عجزه لأحد و لا حتى لنفسه أن يقوّيه الله و يجبر خاطره بنداء خفي لا يسمعه سوى جدران روحه و باطن صدره المدفون في أنحاء جسده.. فجبره الجبار دون أن يلجأ لأحد كم من زوجين حُرما الأطفال و احتراما لمشاعر بعضهما لم يبح أحدهما للآخر بمشاعر الحزن و الألم الذي يعتصر فطرته لحرمانه من نعمة الولد، بل لملم طاقته و نادى ربه نداءا خفيا أن يجبر الله خاطره و زوجه بالذرية الصالحة التي تزين لهما هذه الحياة الدنيا.. فوهبهما الوهّاب دون مقابل و دون صرف مبالغ طائلة كم من محروم فُتح له باب العطاء على مصراعيه بركة دعاء خفي لم يعلم به أحد إلا الله و كم من عاص فتحت له أبواب التوبة و الغفران بدعاء خفي سمعه الله و كم من يتيم عوّضه الله عن أبويه بمن هم أحنّ عليه منهما بدعاء خفي أسرّه بينه و بين الله ثم خرج للناس بعزة لا يطلب شيء.. فأعزّه الله وأكرمه كم من لاجئ فُتحت له أبواب الفرج و الفرص في مكان أفضل له من وطنه الأصلي ببركة دعاء خفي لم يسمعه إلا الله كم من فقير مسح دموعه سرّا و خفاءا بينه و بين الله فمسح الله فقره في ليلة و ضحاها ببركة دعائه الله كبير معطاء يعطينا من الخير ما لا نتوقعه، فكيف لو جاء هذا الخير بدعاء خفيّ لا يحتاج جهد، و لا مكان خاص، و لا ملابس فخمة، و لادعوة عشاء في أفخم فندق، و لا توصية من أحد، و لا كاميرات العالم لتصوّر الحدث الكبير لهذا العطاء، يحتاج فقط قلب مخلص محبّ لله بلاشوائب قلب سليم معافى من أمراض القلب، مخلص لله بحق .. عندها سيصعد الدعاء و الطلب بلا صوت، و سيُصبّ علينا الفرج بصوت يُسمع دويّه لكل عاقل و سيكون عندها قانون الفيزياء بأن لكلّ فعل ردّ فعل معاكس له في الاتجاه و مساو له في المقدار خاطئ في هذه الحالة، لأن دعاء خفي بصوت لا يسُمع من مخلوق ضعيف لا تساوي لا في الاتجاه و لا في المقدار كرم الكبير المعطي و نعمه التي تُصبّ على الإنسان في لحظات ضعفه، فتنتشله مما اعتقد أن لا خلاص له منه و تُغيّر واقعه الذي اعتقد أن لا مرونة في تغييره، و تحرّكه نحو الأمام رغما عنه، كغريق في بحر يهوج و يموج حتى فقد الأمل بالنجاة ثم تجرّه الأمواج رغما عنه إلى واحة خضراء يستلقي فيها بعيدا عن جنون البحر الذي أعياه الحمدلله ..

الحمدلله الذي منّ علينا بالدعاء الذي يُسمع حتى و هو في باطن صدورنا

الحمدلله أننا عباد لرب كريم رؤوف رحيم لا ينسى دعاءنا و يعطينا خيره حتى لو نسيناه نحن كما ننسى كثيرا من النعم التي منَّ .. و ما زال يمنُّ بها علينا الحمدلله أنك أنت الله.. و الحمدلله أننا عبيد لك يا الله شكرا يا من قلت ادعوني أستجب لكم ، يا من إذا أردت شيئا قلت له كن فيكون .. و شكرا لك على رحمتك التي وسعت كل شيء..

وسعت حتى ذاك الصوت المكتوم في أعماق صدورنا..