حين نعود للزمن الماضي
- Haya Alaqeel

- Apr 9, 2021
- 5 min read
Updated: Jul 27, 2024

بقلم : هيا العقيل
في مكان ما يقبع في أغوار النفس الإنسانية، تراكمت أيام مضت و مشاعر اعتقدتَ أنها قد تناثرت و تبعثرت، لكنك بالصدفة قد تجدها، لا بل إنك إن قرّرت فستجدها، و إن قرّرتَ أيضا فإنك ستنفض عنها غبار الزمن حتى تتعرّف على ملامحها عن قرب و على تفاصيلها التي اندثرت تحت ركام الأيام. ستجدها هناك تقبع في كهف صغير في داخلك الرحب، ملوَّحة لك بيدها، ما تلبث أن تقترب منها حتى تأخذ بيدك نحو تلك الأيام و المواقف البعيدة.. البعيدة جدا، و التي من رحمها وُلدت تلك المشاعر التي ما زالت متناثرة و متبعثرة بين جدران روحك دون أن تدري
عندها.. في لحظات سريعة ستجد نفسك دون سابق إنذار، و بلا موعد مسبق، و دون الحاجة لوسيلة مواصلات، تجلس مع تلك الأيام والذكريات و المواقف وجها لوجه على طاولة واحدة، في نفس ذاك الكهف المظلم الذي ما يلبث أن ينير كلما حدّقتَ النظر به، فتتضح لك تفاصيل تلك الأيام رويدا رويدا عن قرب أكثر من أي وقت مضى. و هناك فوق تلك المضغة النابضة في أحشائك ستُسدل شاشة العرض، عرض المواقف التي اعتقدتَ أنها قد غادرتك، لكن في الحقيقة لا هي غادرتك و لا أنت غادرتها.. أو حتى سمحت لها بالمغادرة
عندها سترى و تسمع.. لكن دون أن ترى و تسمع ... قمّة الجنون أليس كذلك! لكنه هو حقيقة أكثر من اللازم
و عندها ستشاهد.. و تشاهد.. و تشاهد
بقلبك و ليس بعينيك هذه المرة..
و تسمع .. بروحك و ليس بأذنيك هذه المرة أيضا
سترى نفسك أنت البطل الوحيد الذي يتكرر في جميع تلك المشاهد المعروضة.. و الأجمل أنك سترى نفسك و أنت في مراحل مختلفة من حياتك، لكن مع فارق بسيط هو أنك هذه المرة متفرِّج لا أكثر
ستذكر مواقف .. ثقيلة، خفيفة، سخيفة، جميلة، مخيفة، مبهِجة، صادمة، عادية، جنونية، محبِطة ...
فقد ترى يومك الأول في المدرسة.. و دموعك المكبوتة في مكان ما داخل جسدك الغضّ الطري في ذاك اليوم التاريخي من أيامك الحديثة العهد في التعرّف على الحياة بعيدا عن حضن أمك
و قد تذكر ألوانك و أوراقك و إبداعك الذي شعرت به يتفجّر في داخلك مع أول خرابيش خطَّتها يداك في هذه الحياة، قبل أن يطمسها أويخنقها أو يقيّدها أحد ممن هم حولك، أو قبل أن يكتشفها و يشجعها و يطْلقها أحد ممن هم حولك أيضا .. قد يكونون في البيت، في المدرسة، في الجوار، في الأقارب، في أماكن تذكرها و لا تذكرها
ستذكر وداعك الأول لأبيك حين سافر إلى مكان بعيد جدا و بكيت و كأنك فارقته للأبد، مع أنه لم يذهب سوى إلى المدينة المجاورة لمدينتكم
ستذكر رائحة العيد في قصر أهلك، ذاك القصر الذي قد لا يتعدى غرفة واحدة في مقاييسك أنت نفسك حين كبرت
ستذكر رائحة شجرة الليمون في حديقة جارك الملاصقة لبيتك.. و شجرة التين التي كانت على الجانب الآخر لجارك الآخر.. و تذكر تلك التي وقعت يوم نضجها فتناولَتها يدك البريئة مخلّفة في فمك طعم الذكريات للأبد حتى بعد أن نضجتَ أنت
ستذكر تلك النهرة التي نُهرتها ظلما
و تلك التي نُهرتها باستحقاق منك..
ستذكر تلك الكلمة التي نَزَفت منها مشاعرك حزنا
و تذكر تلك التي هيّجت مشاعر البهجة فيك..
و تذكر تلك النظرة التي دمّرت جزءا من ثقتك بنفسك، و تلك التي حلّقت بك نحو القمة في لحظات واثقة لا يشوبها التردّد..
و تذكر مقارنة جعلت منك الأصغر في معادلتها
و أخرى جعلت منك الأكبر و الأول... و بجدارة
و تذكُر..
ستذكر الكثير مما تذكُر..
ستُذكّرك تلك الشاشة بالكثير،
بقصّتك التي عرفتَ بدايتها لكنك لم تصل بعد إلى تلك التي تُختم بها القصص، كلمة (النهاية)، و المضحك أن هذه النهاية ستُروى ممن يأتي بعدك و ليس منك أنت صاحبها.. مهما حاولت
ستذكر أيام مضت اعتقدت أنها لن تمضي ..
و مضت
و مرضا ألمَّ بك اعتقدت أنه سيرافقك حتى التراب.. و غادر
و فراقا اعتقدت أنك لن تقوى عليه.. كنت أنت الأقوى منه
ستذكر..
ذنبا أقلعت عنه خوفا من الله
و ذنبا أقلعت عنه أمام الناس لا خلفهم
ستذكر..
ستذكر أفكار و معتقدات و قيم في صندوق أفكارك، و تتعجّب من نفسك كيف اقتنيتها يوما ما في حياتك، و تسعد بتلك التي ما زالت تعشش داخلك في نفس قوتها و حضورها و لم تتزعزع
ستُدهش مما تشاهد ..
و ستعيش أجواء التشويق في بعض المواقف التي تراها، خاصةً تلك التي تسلّمك مهمة الوصول لخيوط بدايتها، فتُعطيك نهاية الخيط و أنت الذي ستتعقّبه حتى تصل لبدايته، لأمور لم تعتقد أنها قد حدثت معك، لكن مجرد تحسّسك لنهايتها أوصلك لبدايتها لا بل إلى جذورها المتشبثة في أعماقك دون أن تدري
و ستجرّك الأيام.. لكن هذه المرة إلى الوراء،
و ستشاهد نفسك و هي تتراكم حتى أصبحتْ على هيئتك أنت اليوم ، و ستهنّئها إن كانت قد أبلت بلاءاً حسنا طبعا مقارنة بنفسها و ليس بأحد آخر، فأنت لست في قاعة الاختبار تلك التي دفنتَ بها مواهبك في ورقة ما لبثتَ أن أَلقيت بها في سلة المهملات بمجرد انتهائك منها دون أن تتذكّر شيئا مما كان فيها
سيكون يوم جميل ذاك الذي سترحل به عن هذا العالم بإرادتك لتعود إلى الزمن الماضي.. سيكون جميل بغضّ النظر عما إذا كان أبيض أو أسود أو حتى رمادي.. ذلك أن ما زالت فيك الروح، و ما زال الهواء يروح و يغدو في رئتيك فهذا يعني أنك قادر على أن تستقلّ ذاكرتك لتُقلّك إليه و تحظى بفرصة ترميمه و طلائه باللون الذي تريد
هذا اليوم.. يوم العودة للزمن الماضي.. يوم ليس ككل الأيام، يوم بنكهة غير مألوفة لباقي أيامك، يوم يُلقي بظلال هيبته عليك فتشعر في حضوره بمزيج من المشاعر التي لم تتذوقها دفعة واحدة هكذا من قبل، و مع ذلك تشبّث و لا تفرِّط به، علّك تجد على يديه نفسك التي ضاعت منك منذ زمن في زحام المواقف و الأيام و السنين..
الحياة قصيرة، و من تذوّق طعم قِصرها عبر تجربة خاصة له مع مرض كان سيودي بحياته، أو فراق عزيز على قلبه، أو تعرّضه لحادث نجا منه بأعجوبة، أو بغيرها من المواقف، تلك التي تجعله يدوس على فرامل الحياة اليومية رغما عنه مستشعِراً كَم هي قصيرة هذه الحياة و غير مضمونة، سيُدرك أن الوقت المتبقي له من الحياة قد لا يكون أكثر من الوقت الذي مضى، بل على العكس قد يكون أقصر منه بكثير ... بكثير جدا، و سيُدرك أن عجلة الحياة قد أخذته بعيدا جدا عن نفسه الحقيقية و ليست تلك التي يرتديها حين يقابل البشر، و سيُدرك أن محاولته تقييم حياته بأكبر قدر من التفاصيل التي عاشها، و محاولة جهده فهم مكنونات نفسه البشرية ليس رفاهية بل واجب و حقّ على نفسه، هذا الفهم الذي يُعتبر في حدّ ذاته إنجاز و عبادة، عبادة التأملّ و التفكّر بالخالق عبر فهم خَلقه و الذين هو واحد منهم
حين نعود للزمن الماضي الذي لن يعود، ذاك الذي كنا نحن الجزء الأهم فيه علينا أن لا ننسى أن نجعل منه درسا و محفّزا لنا للتقدم نحو الأفضل فيما تبقى لنا في هذه الحياة، بدلا من جعله علّاقة لمبرّرات ضعفنا و تكاسلنا و تخاذلنا، و أن ندرك أننا إن أردنا التغيير فالآن هو الوقت المناسب له لا بل هو الوقت الأنسب على الإطلاق، و أننا لو كنا في الماضي كما يريدون، فالآن هو الوقت المناسب كي نكون كما نريد.
نحن مجموعة أيام، و العبرة فيما تبقى منّا لا فيما مضى.. و الأعمال بخواتيمها، و ما دامت الروح جليسة الجسد فما زالت النهايات مختزلة في قراراتنا
و أجمل قرار هو ذاك الذي نختاره في أن نحيا الحياة المتبقية لنا كما نريد نحن.. لكن القرار الأصعب أن نعلم ما نريد حتى نحياه، و لن نعلم ما نريد دون أن نتعلّم مما كنا لا نريد
إنها أفكار.. أفكار متراكمة على رفوف حياتي، أنفض الغبار عنها بين الحين و الآخر، فتخرج عن سيطرتي هاربة من جدران نفسي إلى ملاذها بين الأوراق و الدفاتر دون إذن مني!
أتركها بعفوية تلهو و تلعب على أوراقي.. فهي بنات أفكاري المدللة
و السلام








Comments