دود القبر و عمليات التجميل
- Haya Alaqeel
- Jun 3
- 5 min read

بقلم : هيا العقيل
استيقظتُ ذاك الصباح في وقت متأخر على غير العادة، عقلي يحوي الكثير من اللقطات المبعثرة هنا و هناك، نومتي لم أستمتع بها كما اعتقدت أني سأفعل في نهاية أسبوع منهِك من أوله لآخره
جلست قرب النافذة أحتسي قهوتي، أخذتْ ذكريات أمسي القريب تتقافز في عقلي هنا و هناك، مهمّتي في الصباح تتركز الآن على تهدئتها و ترتيبها؛ ذلك أن نومتي التي وظيفتها القيام بذلك في الليل لم تقم بواجبها على أكمل وجه هذه الليلة
ثم وجدتني لا شعوريا - و دون مقدمات - تقفز إلى ذهني مشاهد مشوَّشة من الأمس القريب، كتشويش عينيّ اللتين تحاولان الاستيقاظ. إلا منظر النساء اللواتي رأيتهن في المجمَّع التجاري، فقد علقت صورتهن في مخيّلتي رغما عني بوضوح دون أن تتشوّش؛ فتيات الأصل فيهن الجمال لكن كان هناك دخيل قد خيّم على وجوههن جزء منها أو كلها ، سواءا كان ذلك عبر نفخ للشفاه، أو تكبير للخدود، أو تحديد للوجوه، أو غمازات صناعية، أو غيرها من العمليات في أجزاء أخرى متفرّقة من أجسادهن، فغيَّر ذلك من ملامحهن الجميلة بالخِلقة إلى ما هو أقل جمالا بالتصنّع
ثم لا أدري كيف حملني خيالي إلى المستقبل عندما يتوفّاهن الله و يتم دفنهن، و كيف أنهن سيُدفنّ مع وجوههن و شفاههن و... و .. و .. اللاتي تضاعف حجمهن، و كيف أنّ ذلك سيجعل منهن وجبة أدسم للدود في ذاك القبر، فنسبة اللحم أكبر؛ الشفاه بدل أن تُطعم دودة قد تُطعم دوتين أو ثلاثة أو أكثر - على حسب الحجم الذي قرّرته المرأة سواءا في عمر الشباب أو الشيخوخة - و كان الله في عون الدود فقد يصبح لحمه أكثر بعد أكله للبوتوكس و الفيلر و السيليكون الذي كان وجبته الشهية في تلك الليالي المظلمة في ذاك القبر، و سيكون وجبة شهية لمن سيلتهمه بعدها،
و عندها ستنتشر مخلّفاتنا بالطبيعة حتى بعد أن نفارقها، فنحن نأبى أن نفارقها بهدوء، فعلى ما يبدو أنّ هذه الأرض لم تسلم منا و نحن فوقها و لن تسلم منا و نحن تحتها.. كان الله في عوننا و عونها
هوس عمليات التجميل الذي بات يملأ الإعلانات، و المنصّات الرقمية، و الأفلام، و المسلسلات، و الإعلام بجميع أشكاله، و الترويج الهستيري له، ذاك الذي يخدم في المقام الأول من يقف خلفه من المروِّجين و المستفيدين ماديا من هذه الصناعة و يرمي بعرض الحائط أي مبادىء أو قيم، يلعب بعقولنا و عقول أبنائنا و الجيل بأكمله؛ بات يدفن رؤوسنا في المادية أكثر و يمرّغنا بأرض الغرائز و الشهوات و بكل ما من شأنه أن يشدّنا للأرض و لا يرقى بنا للسماء
و كيف لا و هو عمل صريح من عمل الشيطان الذي قالها بصريح العبارة :
“وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا”
(النساء: 119)
بالطبع هذا لا يعني أن عمليات التجميل بمجملها خاطئة، بل على العكس فهي في أحيان كثيرة تكون مباحة لا بل و واجبة؛ فهي في حالات العلاج للعيوب الخلقية و التشوّهات أمر ملحّ و واجب لا بد من القيام به، لذلك نجد أنّ أساس هذا العلم و مجال عمليات التجميل قد تطوّر بشكل كبير و ملحوظ بعد الحربين العالميتين الأولى و الثانية بهدف علاج الجنود الذين أُصيبوا بتشوهات في الوجه و الجسد
أما الآن فالدوافع و الأسباب باتت مختلفة، من تأثير لوسائل التواصل الاجتماعي و مَن يسمّونهم "المشاهير و المؤثرين" ، و سهولة الوصول لمثل هذه العمليات عبر العيادات المنتشرة في كل مكان بأسعار متفاوتة تناسب جميع طبقات المجتمع، هذا ناهيك عن الضغط الاجتماعي و المهني، و التقدّم التكنولوجي و الطبي الذي سهّل من تسويقها و بث الأمان في النفوس لخوضها، و غيرها من الأسباب التي سهّلت و ساعدت على انتشار عمليات التجميل "للتسلية و التقليد"
و ليس للحاجة الحقيقية
هلّا توقّفنا خلال يومنا قليلا و تذكّرنا القبر، هو مآلنا الحقيقي مهما حاولنا الهرب من هذه الفكرة؛
سنموت، و يكفّنوننا، و ينزلوننا القبر، ثم سنتحلّل ذاتيا، و ستلتهمنا البكتيريا و الديدان، ستتفكّك أجسادنا و تعود إلى الطبيعة، و ستبقى بقايا عمليات التجميل -تلك التي لا تتحلّل بسهولة و التي قد يحتاج بعضها لعقود- شاهدة على أنّ وهم الجمال لا بدّ و أن يذبل مهما بذلنا جهدا في الحفاظ عليه لأنها سنّة الحياة. سيذبل الجمال رغما عنا فوق الأرض، و تحت الأرض، و لن يكون له أي وزن يوم العرض
" قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ."
(سورة الجمعة، الآية 8)
فالفكرة ليست في أن نهرب من مراحل الحياة التي لا بدّ و أن نمرّ بها جميعا -إن بقينا أحياء- بل بأن نستمتع بها كما نحن
فالفكرة ليست في أن نهرب من مراحل الحياة التي لا بدّ و أن نمرّ بها جميعا -إن بقينا أحياء- بل بأن نستمتع بها كما نحن، ذلك أنّ القوة الحقيقية تكمن في مواجهة الواقع و ليس الهروب منه، و بالاستعداد لتلك النهاية المحتومة على كل بني البشر المتمثّلة بالموت .. و ليس الهروب منه أيضا
إذا كان العمر ينقص، و القوة تنقص، و الإدراك ينقص كلما تقدّم بنا العمر، أفلا ينقص الجمال؟ إنها تأتي جميعها كحزمة كاملة لكل إنسان، قد نستطيع إبطاء أحدها لكننا لن نستطيع ذلك لوقت طويل، لأننا أضعف من أن نتحدّى مشيئة الله الذي خلقنا ضعفاء، و من أن نوقف مرور العمر و علاماته على أجسادنا
و من جميل ما قيل عن العمر، ما قاله الحسن البصري: “يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم، ذهب بعضك"
و بعضك هذا؛ هو عمرك، و قوتك، و جمالك،
و وقتك، و صحتك
نحن نمرّ بوقت صعب يحتاج الكثير من الجهد في مقاومة الرغبات و الشهوات و الغرائز، إنه جهاد للنفس كي نختار الصواب في عصر يعجّ بالخطأ، و الدعاء أن نثبت في زمن المتغيّرات المتسارعة، و من ثمّ التوكّل على خالقنا و عدم اليأس مهما حدث
إننا بحاجة ماسة لكوابح نكبح بها جماح أنفسنا فلا ننساق خلف القطيع، و لا رادع أقوى و أكبر أثرا في النفس البشرية من ذكر الموت..
علينا أن نعتاد ذكر الموت..
أن نُذكّر أنفسنا أن التراب ينتظرنا..
و أننا هناك..في التراب ..
سنذوب..
و ستذوب الوجوه و الشفاه التي نُفخت، و ستتحلّل الضحكات المصطنعة التي شُكّلت في عيادات التجميل، ولن تهاب الديدان أن تلتهم من اعتقدت أنها الأجمل فوق الأرض و ستذوب و تتلاشى رغما عنها. لن يشفع لها أنها كانت الأجمل فالأهم الآن إن كانت الأنقى و الأصدق، سيتحوّل حينها كل ما ظننّاه جمال نلهث خلفه بكل ما أوتينا من قوة، إلى وهم هشّ.. هشّ جدا
تقول لي صديقتي: معظم إن لم يكن كل نساء عائلتي قد قمن بعمليات تجميل، أكملتْ بنبرة فكاهية : سواء من العيار الثقيل أو الخفيف، و يجدنني غريبة لأني إلى الآن لم أقم بإجراء و لا حتى عملية تجميل واحدة، و في بعض الجلسات يُسهبون -بمزاح حتى لا يجرحون مشاعري- في إعطائي ملاحظات عن حاجتي لبعض الشدّ في مناطق بوجهي هنا، و النفخ هناك، و التصغير و التكبير هنا و هناك...و هناك، لدرجة أنهم في بعض الأحيان يُشعرونني و كأنني أنا الغريبة و ليس هم، فأصبحت أحاول أن أتجنّب الجلسات التي تجمعهن، خاصة إن لم أكن بمزاج يحتمل التعليق، كي أخفّف عن عاتقي ضغط إضافي إلى ضغوط حياتي.. صدقّيني أحاول أن أتجاهل كلماتهن لكنني أحيانا أستطيع و أحيانا لا أستطيع.
ضحكتْ ضحكة خفيفة - لا تُثقلها الحشوات التجميلية - و قالتْ كعادتها بعفوية و روح مرحة :
ليت بالي لا يبالي، لكنه و للأسف يا صديقتي و بلا مكابرة.. أحيانا يبالي و يغريه - تكرار التعليقات - أن أخوض التجربة فأُغيّر من شكلي قليلا، لكني ما ألبث أُذكّر نفسي بكلام الله:
“وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّه…" فتهدأ نفسي و أعود لقواعدي الثابتة بأن الأكثرية لا تعني الصواب أبدا!
هذا الصراع يعيشه الكثير من الفتيات و النساء في كل المجتمعات، لذا لا بد لنا -للإنسان بشكل عام و المرأة بشكل خاص- من قاعدة ثابتة نرتكز عليها حين تهاجمنا رياح الانتقاد و التشكيك بأنفسنا، بأشكالنا، بذواتنا، بقيمنا، وبأخلاقنا
و أن نتذكر دوما أن العالم قد عجّ عن بكرة أبيه بالتقليد، أفلا نرجع خطوة للخلف و نتفكّر .. هل فعلا من نقلدهم يستحق التقليد؟
خُلقت أصل.. فلماذا تُشوّه نفسك.. بالتقليد!
خُلقت أصل.. فلماذا تُشوّه نفسك.. بالتقليد!
و السلام
Comments