لا تستهن بقوة العزلة
- Haya Alaqeel

- Aug 17, 2020
- 5 min read
Updated: Jan 14, 2021
بقلم : هيا العقيل

منذ أن خلق الله البسيطة و أنزل إليها آدم و حوّاء ليسكنا فيها، و الإنسان يتعرّض للكثير من المواقف في حياته، سواءا في داخله مع نفسه أو في محيطه مع من حوله. و مع تكاثُر الإنسان أصبحت الأرض كلها تنبض بحيوية الشعوب المتناثرة في جميع أرجائها، فلم يعد هناك مكان واحد ليعيش الإنسان فيه، بل أصبحت الأرض كلها مكان له، يشترك الجميع فيها بالإنسانية، و مظلة ديننا الجميل في موضوع العلاقة مع الآخر ملخصة بقوله تعالى :( و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
و لطالما عبّر كل شعب عن نفسه من خلال عاداته و تقاليده و قصصه و أساطيره و أطباق الطعام الخاصة به، و قد حظيت الأمثال بمكانة خاصة في العديد من المجتمعات كونها تصف أحوال الشعوب و الأمم، و في المجتمعات العربية تكثر الأمثال و الحكم. و من هذه الأمثال المتداولة ( الجنة بدون ناس ما تنداس )، فهل حقا تُحرم الجنة من كل ما فيها من جمال لعدم وجود الناس فيها كما يقولون؟ و هل بذلك نفهم أن جهنم -تنداس- لأن فيها الكثير من الناس؟ و هل وجود الإنسان مع الغير أهم من وجوده مع نفسه، أم أن وجوده الحقيقي مع نفسه يغنيه عن معظم البشر؟
نحن إذا ما قرأنا القرآن نجد أن المميّز هو القليل في كثير من الآيات، و أنّ أكثر مَن في الأرض ليسوا كذلك، فقد قال تعالى: (و إن تُطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، يعني أنّ عدد قليل و ليس كثير من أهل الأرض سيدلونك على طريق الهدى، فالقلة إذا هم المميزون. ما يعني أن الكثير من الناس هم من المفترض بنا أن لا نتمنى أن نُجمع بهم في نفس المكان، فمن أين تأتينا هذه الأمثال التي نواسي بها أنفسنا بأمور لا تمتّ للواقع بصلة؟
نعم الجنة بلا الأحبة يقلّ جمالها و يخفت بريقها؛ ذلك أن الإنسان بطبعه مخلوق اجتماعي، إلا أن هذه الحقيقة يجب ألاّ تلغي أبدا متعة أن يختلي الإنسان بنفسه أيضا، بروحه، بأفعاله الظاهرة و الباطنة. فأن تختلي بنفسك يعني أن تتحول بلمح البصر إلى معلّم و حكيم و قاض ومعاتب لنفس الشخص في آن واحد، ستصبح كل هؤلاء في لحظات دون الحاجة لشهادات أو ألقاب تُذكر قبل اسمك تُخوّلك للقيام بتلك الأفعال، ستختار أي موضوع تريده كي تتحدث فيه دون الحاجة لمقدمات، ستدخل في الموضوع بكل جرأة و إن كان موضوعا محرجا لا تتخيل نفسك تتكلمه مع أحد من البشر، قد تبكِ و تضحك و تحقد و تسامح كل ذلك في آن واحد، ستُفاجئ بأنك تقوم بتصفية عقلك شيئا فشيئا حتى تشعر أنك قد عقّمته من كل ما علق به مع مرور الأيام من دروس قاسية أو تجارب فاشلة أو أخطاء. قد يحدث هذا التعقيم دفعة واحدة و قد يحتاج أكثر الأحيان إلى دفعات متكررة حتى تصل لنتيجة التصالح مع ذاتك و التخلص من كل الآثار التي خلّفتها محطات الحياة السابقة في أغوار نفسك، أنت لا تحتاج للكثير كي تختلي بها، لا تحتاج أن ترتدي أجمل ما لديك و لا لأن ترتب أفكارك و تنتقي كلماتك، ما تحتاجه فقط هو أن تلغي مواعيدك جميعها في هذا اللقاء، أن تكون معها في مكان ما بمفردكما يغلّفكما الهدوء و الصمت
يعتقد بعض الناس أن الصخب هو الحياة فلا يحتمل أن يبقى بمفرده، فهو مرة مع أهله، مع أصدقائه (حقيقين أم وهميين)، مع جيرانه، مع زملائه، المهم أنه مع أحد، و للأسف أن هذا المفهوم هو الذي يروّج له الإعلام عبر وسائله المتنوعة، مفهوم أنك كي تكون سعيد فلا بد أن تكون اجتماعي أكثر من اللازم، و أنك لا بد و أن تحيط نفسك بالآخرين في كل مكان، في وسائل التواصل الاجتماعي، في المطعم، في الطائرة، في السيارة، و في كل مكان.
كان رسول الله ينعزل بنفسه عن الناس في غار حراء و يجلس هناك بالأيام و الليالي، يفكّر و يتفّكر، يسأل و يتسآءل، كان يمشي إلى خارج مكة بنيّة الاختلاء بنفسه، يعني أنه يبذل الجهد للحصول على هذه الغاية المهمة ألا و هي الاختلاء بالنفس، و التي دخلت علينا بقالب "راقي" و أسموها التأمّل meditation، و هي نفسها موجودة منذ زمن بعيد لأنها حاجة ضرورية إنسانية و ليست شيء تم ابتكاره حديثا. الفرق هو أنه في القِدم كان كل شيء يساعد و يدفع بالإنسان للتأمل، من طبيعة محيطة به، من سكون الليل بلا إضاءة تُذكر منتشرة في كل مكان، تصميم البيوت البسيط، كان الرفيق في الليل هو ضوء القمر، و إذا ما سار الشخص للبيت في طريق عودته من عمله كان يرى إبداع الله في الخلق و ليس يجلس خلف مقود السيارة يقلّب المحطات حتى لا يشعر بالملل و عيونه متتبعة لإشارات المرور و الطريق. حتى طبيعة الأعمال كانت تساعد على التأمل، سواءا في رعاية المواشي، و زراعة الحقل، و السفر عبر البلاد على الدواب للتجارة، كلها أمور تجعل للتأمّل مكانا تلقائيا في نفوس البشر آنذاك
يجب أن لا تنسينا مشاغل الحياة أنفسنا الحقيقية، تلك المتمثلة في أرواحنا التي تتجاوز أشكالنا و تعليمنا و مناصبنا
يجب أن لا تنسينا مشاغل الحياة أنفسنا الحقيقية، تلك المتمثلة في أرواحنا التي تتجاوز أشكالنا و تعليمنا و مناصبنا، نحن بحاجة ماسّة لأن ننظر للحياة بمنظور مختلف لا يكون فيه الاعتبار المادي هو أولا في كل شيء حتى في التعامل مع أنفسنا. جوهر الأفعال التي خُلقنا من أجلها لا تقتصر على: أكل، شرب، نام، لعب، فهناك أيضا: استيقظ، تأمّلَ، تساءل، قدَّر نِعم لا تعوّض بالمال. ذلك أن من يعرف كيف يختلي بنفسه في زحام هذه الحياة هو في نعمة يغبن عليها، و كما قال ابن القيم: غراس الخلوة يثمر الأنس. فلا تستهن بقوة العزلة و التمعّن بالذات، لا تستهن بأن تكشف الستار عن ذاتك الحقيقية و تتعامل مع من حولك بما يضمن لها الراحة و الرضا
العلم يتطور و حياتنا أصبحت في كثير من الجوانب أسهل بفضله، إلا أن نفوسنا باتت أكثر تعقيدا، و لعلّ صدمة في حياتنا هي ما قد يوصلنا للاعتراف بحقيقة أننا مشوّشون من الداخل و إن كنا لا نُظهره لمن حولنا، و الأغلب أننا جميعا نعاني من هذا لكن قلة من يدركون هذه الحقيقة و حجم المتاعب التي يسببها هذا التشوّش، هناك شيء في دواخلنا لا نفهمه هو مصدر لكل شيء لا نريده من مشاعر و مواقف، هو شعور بأننا ندور في دائرة مفرغة في حياتنا ستدفع بنا نحو البحث عن الجذور الخفية لما يحدث حولنا من أحداث، ينبغي أن نبحث عنها و لا نتهرّب منها، و سنتفاجئ حينها بقوة العزلة في إظهار ما أخفته السنين تحت تراب أرواحنا من قصص و تجارب و حكايات، و تكون عندها هذه العزلة نعمة كبيرة لم نكن لنصل إليها لولا الخلوة مع النفس، وقد قال الله عزوجل: ( و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم)، و اكتشاف مكنونات النفس بخيرها و شرها هو ما قد نكرهه و نتجنبه خوفا من اهتزاز صورتنا عن أنفسنا التي حاولنا أن نروّضها على التأقلم مع الحياة و مواقفها دون الالتفات لما تحتاجه هي حقا، فيكون كل الخير مخبّأ تحت هذه الأنقاض، أنقاض النفس البشرية التي نستطيع إعادة تشييدها بأجمل مما كانت عليه لو قررنا ذلك
اكتشاف مكنونات النفس بخيرها و شرها هو ما قد نكرهه و نتجنبه خوفا من اهتزاز صورتنا عن أنفسنا التي حاولنا أن نروّضها على التأقلم مع الحياة و مواقفها دون الالتفات لما تحتاجه هي حقا، فيكون كل الخير مخبّأ تحت هذه الأنقاض، أنقاض النفس البشرية التي نستطيع إعادة تشييدها بأجمل مما كانت عليه لو قررنا ذلك
نحن نشتاق للفطرة التي أوجدنا الله عليها، نحتاج أن نعود لأصلنا البسيط من الطين، أن نترك خلفنا كل زركشات الحياة و لو قليلا حتى نعانق التراب، نعانق البساطة، نعانق نفسنا الحقيقية بلا وسائط، نتكلّم مع خالقنا بلا وسائط و مواعظ و نصائح و تعليمات و محاضرات، نحتاج البساطة و الهدوء في أيامنا هذه كما نحتاج الماء و الهواء، و كما قال الدكتور مصطفى محمود: ( السعادة الحقة لا يمكن أن تكون صراخاً، وإنما هي حالة عميقة من حالات السكينة تقلّ فيها الحاجة إلى الكلام وتنعدم الرغبة في الثرثرة....)
كن حرّا كن قويا و افتح أبواب نفسك بنفسك و لنفسك، فأقفال أبواب أرواحنا صدأت من إهمالها، و اعتزل الناس بين الحين و الآخر، و اختلي بنفسك و تقبّلها و ارحمها، فلولا حب الأم غير المشروط لوليدها لما استطاعت أن تتحمل ما تتحمله في رحلة تربيته، فكن أنت لنفسك الأم التي لا تسأم من وليدها و تساعده دوما على اجتياز المصاعب
يقول ابن حزم: (الفقد، زوال جزء من النفس)، و الإنسان لا يفقد بحق إلا ما يحب، و هذا الحب لن يأتي إلا إن أنت تذوقت طعم العزلة بين الحين و الآخر، فلا تستهن بقوة العزلة!







Comments