top of page

تطمئن و ربّ الطائرة معك.. أفلا تطمئن و رب الأكوان خالقك !



بقلم : هيا العقيل


سافرت مؤخرا بالطائرة، و في منتصف الرحلة أعلن طاقم الطائرة عن ضرورة وضع الأحزمة لأنّ الطائرة تمرّ بمطبّات هوائية قوية، سمعتُ الكلام كطالب نجيب و وضعت حزامي، و أكملت قراءة كتاب كان في حاسوبي اللوحي، لكني لم أخَفْ أبدا، شعرت بالراحة رغم أن المطبّات كانت قوية، لكني معتادة على مثل هذا النوع من المطبّات في حياتي، و أشعر داخليا بالأمان - بعد الأمان بالله- بأن الطيّار محترف و ستمضي على خير، و إن لم تمضِ فحينها يكون قضاء الله و قدره


نظرتُ إلى الغيوم التي تخترقها الطائرة، و قلت لنفسي:


نحن بنو البشر غريبون، إذ نادرا ما أجد من المسافرين من يهلع في الطائرة بسبب المطبّات الهوائية التي تعترض طريقها في السماء؛ و قد يعزى ذلك لمعرفتهم أو لثقتهم بأن الطيّارين وأفراد الطاقم قادرون على التعامل مع مثل هذه الظروف، أو لتجاربهم السابقة المُطَمئِنة، إذ أنهم اعتادوا عليها مع كثرة أسفارهم فما عادت مثل هذه المواقف حدثاً يسترعي اهتمامهم أو انتباههم


فأكملتُ حواري في نفسي قائلة :


فكيف نهلع نحن بنو البشر و ربّ الأكوان و العالمين بأكمله هو مَن يصرّف حياتنا و يدبّر أمورنا و لا يغفل عن مثقال ذرّة فيها؟ بينما نطمئن لتكنولوجيا هي من صنع البشر، و لمهارة طيّار ذاك الذي هو واحد من البشر، نتأرجح بين سماء و أرض بطائرة معلّقة بالهواء هي الأخرى من صنع البشر؛ تلك الكائنات التي تُخطئ في اليوم ألف مرة


نخترق الأجواء بلا أرض ثابتة، لا نعلم أين نحن و لا على أي ارتفاع، و مع ذلك لا نتدخّل بعمل الطاقم المسؤول عنا في هذه الرحلة؛ إذ أننا قد سلّمناه أمرنا - لا بل حتى أرواحنا - حتى نصل لوجهتنا التي نريد



إذن كيف نهلع و رب الأكوان هو ربّنا ؟


خالقنا الذي يعرف علانيتنا و سرّنا

يعرفنا أكثر ما نعرف نحن أنفسنا

يسمعنا دون كلام

يتوب علينا دون ملام

يغفر لنا الذنوب و إن تراكمت كالجبال العِظام


ألا نهلع بطائرة يقودها بشر و نهلع في حياة يقودها كاتب الأقدار و رب الطيّار نفسه و رب كل البشر ؟


أنثق بتكنولوجيا كل يوم تتغيّر و تتطوّر و تتبدّل أكثر مما نثق بخالق الإنسان الذي اخترعها و طوّرها ؟


افتخر مسؤولو سفينة تايتانيك- تلك السفينة العملاقة التي شُيّدت في أوائل القرن العشرين (1912م)  -  بالتقدّم الصناعي الذي حقّقوه ببنائها عبر استخدامهم أحدث التكنولوجيا في ذلك العصر، حتى ظنّ بعضهم أنّ هذه السفينة لا يمكن أن تغرق أبدًا. و يُقال أن بعض المسؤولين عن السفينة قالوا مُتَحَدّين: (حتى الله لا يستطيع إغراقها)، و انبهر الكثير من الناس حينها بقوّتها، و ضخامتها، و تصميمها، و تقنياتها، و فخامتها، و أخذوا يشيرون إليها بالبنان مؤكدين و مردّدين بأنها السفينة التي لا تغرق، فقد كانت رمزا للتقدّم الصناعي للبشرية آنذاك. فما كانت إلا ساعات من انطلاقها في رحلتها الأولى من ساوثهامبتون (إنجلترا) إلى نيويورك (الولايات المتحدة) حتى شاء الله أن تصطدم في طريقها بجبل جليدي في شمال المحيط الأطلسي، فغرقت السفينة و غرق معها كثير ممن كانوا على متنها في أول رحلة لها، رغم قمة التطوّر البشري والتكنولوجيا الفائقة والرفاهية التي كانت تمثلّها في ذلك الوقت


و لا شيء يحدث في الكون عبثا و بلا معنى، فإذا كنا سنُسأل عن أصغر عمل يمكن تصوّره في حياتنا و لو كان بحجم الذرّة، ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) سورة الزلزلة. فهذا يعني أنّ هناك حكمة و عبرة وراء كل حدث في حياتنا مهما بدا صغيرا أو كبيرا، و ما حدث للسفينة لم يكن حدث عابر بل كان درس فيه حكمة و عبرة؛ كي نوقن نحن بنو البشر بأنّ الأمان الحقيقي هو مع الله و من الله، و ليس من التكنولوجيا مهما بلغت، أو من شخص ما مهما بدا قويا؛ فكم من قوي هُزم و كم من ضعيف أُنقذ بقدرة الله و تدبيره، و القصص في القرآن الكريم كثيرة تدل على قدرة الله على حفظ الإنسان بطرق لا تخطر على البال إذا أراد حفظه ؛ فمَن حفظ موسى الرضيع، و أصحاب الكهف، و يوسف الملقَى في البئر، و اليتيمين و الجدار الذي تحته كنز لهما، و الأقوام الصالحة و إن كانوا قلة مستضعفة، و غيرهم الكثير ؟ و على تدمير الإنسان أيضا بلمح البصر إن أراد تدميره و لو كان يمتلك كل مقوّمات القوة (الدنيوية)، فأين هم قوم نوح، و عاد، و لوط، و ثمود ؟ و أين هو النمرود، و فرعون، و قارون، و غيرهم الكثير ممن تغيّرت أحوالهم في غمضة عين ؟


فكم من قوي هُزم و كم من ضعيف أُنقذ بقدرة الله و تدبيره، و القصص في القرآن الكريم كثيرة تدلّ على قدرة الله على حفظ الإنسان بطرق لا تخطر على البال إذا أراد حفظه

هي درس و عبرة كي يتواضع الإنسان ولا يغترّ بقدراته إذا ما فتح الله عليه من أي شيء، و كي يُدرك أن السلامة الحقيقية بيد الله وحده، و أنه مهما بلغ من العلم و القوة فهو ضعيف أمام مشيئة الله و عظمته و قوته و قدرته. و من يتمعّن بالتاريخ القديم أو الحديث يجده يعجّ بالكثير من الدروس و العبر؛ تلك التي يرسلها الله للإنسان في كل العصور و الأزمان، ليذكّرنا أن لا أحد أعظم و أحق أن نخشاه من الله، فلا يخاف عندها الإنسان حدّ الجزع من أي شيء، و لا من أي مخلوق مثله لا يملك من أمره شيء، و لا يملك حتى لنفسه نفعا و لا ضرّا إلا بشيء قد قدره الله له


و الله سبحانه خبير لطيف بعباده، أخبرنا مطَمئِنا أنّ كل ما يحدث لنا إنما هو مقدّر و مكتوب عنده من قبل أن يبرأنا، فلا يُضيّع عندها الإنسان عمره متحسّرا آسياً على ما فاته في هذه الدنيا - طبعا مع الأخذ بالأسباب - و لا فرِحا حدّ التكبّر بما أُوتي و أُعطي فيها متناسيا فضل الله الذي أعطاه و رزقه، لأنّ الأمر كله بيد الله :


﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿٢٢﴾ لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾  [سورة الحديد]


  ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [سورة التوبة]


فلِم لا نتوكّل و نطمئن بالله.. نطمئن رغم هوجائية الحياة، نطمئن و أقصى ما يستطيع فعله لنا أي أحد ليس إلا تنفيذ لأمر و قضاء الله فينا، فكما قال الشيخ الشعراوي :

لا تقلق من تدابير البشر… فأقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ إرادة الله


لا تقلق من تدابير البشر… فأقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ إرادة الله

و عدتُ أحدّث نفسي أنظر للغيوم من النافذة بجانبي:


هل نحن مؤمنون و موقنون حقا؟ إذ أن الإنسان حين يؤمن بالله حق الإيمان ثم يأخذ بالأسباب و يتوكّل على الله فإنه لا بدّ و أن يطمئن و يرتاح قلبه؛ لأن إيمانه سيوصله إلى اليقين، اليقين بالله؛ ذاك الإيمان القلبي الذي لا تزعزعه الشكوك و لا تهزّه الفتن بأن هناك حكمة خلف كل ما يحدث في الوجود و إن جهِلها، و بأن أمره كله خير لأنه بيد الله؛ فهو بالإيمان و اليقين لا يطمئن فحسب بل يؤجر على كل شيء في حياته، في السرّاء و في الضرّاء، مهما بدا هذا الشيء بسيط كألم الشوكة التي يشاكها، فما بالنا بالهموم و الابتلاءات الكبيرة، يقول رسولنا الحبيب :


( عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له ) صحيح مسلم. و (ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه)

صحيح البخاري


إن الإنسان الذي هو صنعة الله لن تهون عليه هذه الحياة و يستمر فيها محسِنا ظنّه بخالقه سوى بالإيمان الحقيقي، عندها فقط ستُنزع عنه ثياب الذلّ و الهوان، و سيأتيه الخير مهما بدت الظروف حالكة و اشتدّ الظلام و ازدادت الآلام؛ لأنه عندها سيكون في معيّة الله، و لأنّ القلوب إذا ما اطمئنت بالله استنارت، و حينها ستُنير له الدروب لأن نورها من نور رب الأكوان الخالق العظيم، و ستصغر الدنيا في عيونه لأنه يعلم أنها فانية، و سيحسن الظن بربه بأن أمره كلّه خير مهما بدا في ظاهره سيئ، و صدق الشاعر حين قال :


دع المقادير تجري في أعنتها

ولا تبيتن إلا خالي البالِ ..

مابين غمضة عين وانتباهتها

يغير الله من حالٍ إلى حالِ ..


لذا فلنطمئن .. ليس فقط في الطائرة بل في حياتنا كلها، و في كل مكان؛ حتى في أشدّ الأماكن ظُلمة و ظُلما، لأنّ الكون بما فيه إنما هو بين يدي لطيف خبير، مدبّر الأمر قادر على أن يغيّر أحوالنا من حال إلى حال في غمضة عين


﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [سورة يس ]


كُن .. فيكون

كن.. رغما عن كل عائق، و كل كائن، و كل شيء!

كُن.. نرفع بها رؤوسنا عاليا فخرا أننا عبيد .. لربّ عظيم


مستشعرين قول القائل:


إلهي.. كفاني عزًّا أن أكون لك عبدًا..

وكفاني فخرًا أن تكون لي ربًّا!


والسلام ..



 
 
 

Comments


Subscribe Form

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • Instagram

©2020 by Haya Alaqeel. Proudly created with Wix.com

bottom of page